مقالات

كيف يبدأ الوعي

كيف يبدأ الوعي

هل الكم المعرفي والثقافة العامة والخبرات الذاتية تجعل الإنسان واعيًا بما ينبغي أن يكون (معرفة الصحيح والخاطئ (من السلوكيات والأفكار؟

وهل على الإنسان أن يغوص في هذا الكم الهائل من النظريات الفلسفية ليتمكن من تكوين فلسفة شاملة “رؤية للواقع والحياة وماهية الإنسان ولماذا كل شيء”، فينطلق منها كأساس لما ينبغي أن يفعله في هذا الواقع؟

وإذا كانت المعرفة بالواقع نسبية فما أثر ذلك على الفرد بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا أمعنا النظر قليلا سنجد أنه لا يوجد إنسان إلا ولديه تجارب خاصة ومعارف تشكلت عن طريق مصادر مختلفة منها اللاإرادية “كالبيئة، والتربية والثقافة العامة للمجتمع… إلخ” وإرادية كالمعرفة التي يكتسبها بنفسه عن طريق الكتب والمحاضرات العامة والدورات وما إلى ذلك من أمور أثرت في رؤيته للحياة!

كنت قد حضرت إحدى الندوات وكان موضوع المحاضرة عن ” الوعي ” وأهميته على المستوى الفردي والاجتماعي ودور الدولة في تشكيله وحرية الفرد في تكوين وعيه الخاص… إلخ وما توصلنا إليه في نهاية المحاضرة هو أن الأهم أن يحصل الإنسان على حريته ليتمكن من تكوين وعيه الخاص دون تدخل من أي جهة سيادية لأن الحرية هي أهم عوامل تشكيل الوعي الحقيقي , ولكن عندما تساءل بعض الحضور عن كيفية بناء وعي خاص وسليم في ظل هذه الحرية, كان الرد “أن الإنسان عليه أن يهتم بمجموعة عناصر وهي الأهم في تشكيل الوعي : المعرفة والتذكر والاهتمام والسلوك”، وعندما سمعت هذه الإجابة شعرت كأن الإجابة لم تكن حقا “واعية” عن تشكيل الوعي ، فتساءلت ثانية “إذا كانت المعرفة هي أساس السلوك الصحيح، والجميع لديه معرفة ونجد سلوكياتهم منها الصحيح ومنها الخاطئ فما هي وسيلة المعرفة التي تمكنني من تكوين وعى سليم خالٍ من الأوهام؟ وجاء الرد صاعقا هذه المرة “أن المعرفة نسبية” وانتهت المحاضرة!

وما يقصده الدكتور من مقولة “المعرفة نسبية”, هو أنها تختلف من شخص لآخر؛ فما تجده أنت صحيحا أجده أنا خاطئًا ويجد ثالث أنه لا يوجد صحيح وخاطئ من الأساس, وأنه إذا تعرض بعض الأفراد إلى نفس المؤثرات والتجارب بل وحتى نالوا نفس الدرجة العلمية في نفس الاختصاص، نجد أن رؤيتهم للواقع ومفهومهم عن الحياة والغاية منها والسعادة والصحيح والخاطئ وقضية وجود إله من عدمها وأثر ذلك على الإنسان وغير ذلك من المفاهيم الأساسية التي بناء عليها يبدأ الإنسان في التعامل مع الواقع مختلفة تماما، ولكن هل هذا يعني أن المشكلة تكمن في الواقع نفسه أم أنها تكمن في كيفية إدراكه من قبلنا وتوظيفنا للمعلومات التي نتلقاها من المصادر المختلفة!

عندما ذهبت للمنزل وتفكرت فيما حدث في المحاضرة وجدت تناقضًا غريبًا في ما نبحث عنه ونسعى لتحقيقه وما نقر بحقيقته، فكيف نبحث عن سلوكيات سليمة ووعي سليم أساسهما المعرفة السليمة ونسعى لتحقيق ذلك ونحن نقر بأن المعرفة نسبية، ففي هذه الافتراضية “نسبية المعرفة” إشكالية كبيرة تسبب حتما صراعات غير متناهية على المستوى الفردي والمجتمعي بل والعالمي وتنافي تماما بناء مجتمع متماسك وواعٍ كما كان يسعى محاضر الندوة للتوعية بذلك، فنتيجة لاختلاف الرؤية سيختلف التطبيق على أرض الواقع ومن ثم صعوبة وجود عقد اجتماعي ومشتركات إنسانية وتقبل للآخر، الذي سيكون مخالفا لي في كل شيء تقريبا، وبالرغم من مكانة المحاضر العلمية ومعرفته الجيدة جدا بالتاريخ إلا أنها لم تساعده في ملاحظة هول النتائج المترتبة على  كون “المعرفة نسبية” فهو يعتمد على الكمية المعرفية وليس الكيفية التي من خلالها يمكن إدراك الواقع كما هو على حقيقته، وبالطبع ليست النتيجة ما تجعلني أرى في هذه الفرضية إشكالية لأنها إذا كانت حقيقة واقعة فلا يمكن رفضها لمجرد حبي أو كرهي للنتائج المترتبة عليها…

إذا فهل هناك دليل على كون الإنسان -كل إنسان- لديه ما يجعله يتمكن من فهم الواقع بصورة متجردة من كل التحيزات أو التأثرات العرقية أو الاجتماعية أو الدينية أي كما هو على حقيقته فتزداد المشتركات وتقل الصراعات؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 الوعي ومعرفة الحسن والقبح العقلي

نجد إجماع “العقلاء” على كون الكذب والظلم والسرقة والقتل وتعذيب المستضعف والإبادة الجماعية أفعال قبيحة ومذمومة بغض النظر عن اختلاف الديانات والأعراق والثقافات، ونقيض هذه الأفعال من عدل وصدق وإيثار ونصرة للمستضعف وغير ذلك من الأفعال المشابهة حسنة وحميدة، ولكن لماذا نجد من يظلم ويكذب ويسرق ويقيم دولته على أنقاض عرق آخر بالرغم من أن الفطرة تقر ببشاعة هذه الأفعال؟

معرفة الحقيقة لا تعني الالتزام بها لأن الإنسان يصل للحقيقة بعقله ولكن في سلوكه قد تسيطر عليه أطماعه المادية وشهواته وعواطفه فلا يتعلق بالحقيقة التي توصل إليها، حتى أن من يقوم بمثل هذه الأفعال غير الأخلاقية نجده يسعى جاهدا لتبرير موقفه بشتى الطرق الممكنة أو إخفاء كونه قام بهذا الفعل من الأساس! وهو إقرار منه أيضا بكون أفعال كهذه تنافي الفطرة السليمة، وحقيقة الأمر أن ما منعه حقا من ممارسة الأفعال الصحيحة الناتجة عن فطرته هو سيطرة شهواته وعواطفه على عقله وضميره اللذين يشكلان القاضي الذاتي في هذه مثل هذه القضايا.

البديهيات أو الأوليات العقلية

عندما يدخل أحد غرفته ويجدها مرتبة على غير العادة سيتبادر إلى ذهنه سريعا أن هناك من قام بتغيير حالة اللانظام المعتادة إلى حالة النظام هذه، وإذا وجدنا دخانًا يخرج من الغرفة بعدما كانت خالية منه سنتيقن من وجود حريق وسنبدأ في البحث عن من ترك البوتاجاز مشتعلا لأننا نعلم “بديهيا” أن “لكل حادث سبب”، وعند دخول أحدنا إلى إحدى المصالح الحكومية ويذهب إلى الموظف “س” ليقوم بختم شهادته فيقول له لا يمكن أن أختمها إلا إذا وافق الموظف “ص” على ذلك, فتذهب للموظف “ص” لتحصل على موافقته فيقول لك لا يمكنني إعطائك الموافقة إلا إذا تم ختم الشهادة من قبل الموظف “س” وهكذا إلى ما لا نهاية وهذا يعني أن الشهادة لن تختم أبدا وهي بديهية “بطلان الدور”، وجميعنا يضحك عندما نرى الأستاذ توفيق الدقن يجعل الأستاذ عبد المنعم إبراهيم يقر بأن العلبة الصغيرة “فيها فيل” وهي بديهية “أن الكبير لا يحل في الصغير “وغير ذلك من البديهيات” كاستحالة تسلسل العلل إلى ما لا نهاية” و”عدم اجتماع النقيضين” التي يشترك فيها البشر جميعا حتى إذا سفسط بعضهم خوفا من تحمل التكليفات المترتبة على هذه المعرفة الناتجة عن هذه البديهيات، فهي بمثابة البرمجة الأساسية التي من خلالها نتعامل مع الواقع ونحلله بشكل أولي ومن خلال تطبيقها بشكل أعمق يمكن بناء صرح معرفي ضخم ويمكننا أيضا أن  نكتسب الوعي نجيب على كثير من الأسئلة الوجودية التي تشغل بال كل إنسان “من أين أتينا وإلى أين سنذهب وماذا يجب أن نفعل في هذا المكان”…

وبناء على ما سبق فالكمية بدون كيفية صحيحة تؤدي حتما إلى الغرق في دوامات المعرفة غير المتناهية, والمجتمع الإنساني بالرغم من تعدد ثقافاته وأعراقه ودياناته إلا أن المشتركات الإنسانية الفطرية والبديهيات العقلية لدى كل إنسان تمكنه من إنشاء عقد اجتماعي سليم يحتوي الجميع قائم على هذه المشتركات الفطرية, يحترم الاختلافات والخصوصيات العرقية والدينية والثقافية التي من شأنها أن تزيد من التقدم والارتقاء على المستوى الفكري والأخلاقي والمادي “العلمي” بشرط فهم أنه عندما أختار وأضع القوانين إنما أختار وأضع القوانين للجميع.

اقرأ أيضاً:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اعتراض الملائكة على استخلاف الإنسان

التنمر .. السلوك الذي يعبر عن شخصية صاحبه

البحث عن الكاريزما الشخصية .. وطريقة التفكير

شاهد أيضاً:

التعميم

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يعنى إيه تفكير

ما الفارق بين الانسان والحيوان؟

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد خيري

عضو بفريق بالعقل نبدأ القاهرة

مقالات ذات صلة