مقالات

لا شك أن لدينا عقلا، ولا شك أن لدينا جسد، لكن لما لا شك؟2

تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن بعض المقدمات المهمة في علم الأخلاق ، وعن رؤية المنهج العقلي للأخلاق ونشأتها، وكل ما سنذكره هنا مبني على ما ذكرناه هناك.  “لقراءة الجزء الأول من هنا

وسنشير هنا إلى رؤى المدارس غير العقلانية للأخلاق، وانتقاداتهم لها وللمنهج العقلي.

المقدمة الأولى التي ذكرناها هناك هي أن هناك وجودًا! وبالتالي فالاتجاهات المنكرة لوجود الواقع الخارجي يترتب عليها بالضرورة إنكار الأخلاق بالكامل، وإنكار أي قيمة لها، بل أي وجود لها!

هل نملك القدرة على التفكير ؟

المقدمة الثانية هي أننا نفكر، وهذا ندركه ببساطة بعلمنا بنفسنا وإحساسنا بها، بل إن ما نقوم به الآن تفكير، ويمكننا باستخدام هذا التفكير الوصول لبعض الحقائق. بل إن قولنا مثلا: “يستحيل أن نصل للحقيقة” إن كان صحيحا فهو حقيقة! أي استطعنا الوصول للحقيقة أيضًا!

أما الاتجاهات المنكرة للتفكير أو لامتلاك الإنسان القدرة على معرفة بعض الحقائق فهي بالتبعية أيضا تهدم بناء الأخلاق بالكامل، لأننا نتوصل للأخلاق بتفكيرنا، ونعرف الحقائق في المسائل الأخلاقية باستخدام العقل والتفكير.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وإنكار الوجود أو القدرة على المعرفة أو الوصول لبعض الحقائق الثابتة والمطلقة هو ما تقوم به الاتجاهات السفسطائية والتشكيكية، وبالتالي فهذه الاتجاهات هي اتجاهات لا أخلاقية في الحقيقة.

ألدينا روح ؟

هل رأيت مرة “الحرية” تمشي في الشارع؟! وتتصارع مع “العدل” مثلا؟! وهل سمعت صوتهما؟! أو قست طولهما ووزنهما؟! بالطبع لا، فهذه أمور غير مادية لم ولن ندركها بالحواس، وليس لها خواص المادة كالطول والعرض والارتفاع والصوت والشكل والوزن.

هذه الأمور غير المادية نسميها أمورا “معنوية”، وهي أمور ندركها بعقولنا وتفكيرنا وليس بالحواس كما سبق، فعندما نرى إنسانا يأخذ مال الآخر ندرك أن هذا ليس حقه وأن هذا ظلم وأنه قبيح، ندرك كل هذه المعاني بعقولنا لا بأعيننا أو بحواسنا. فالمقدمة الثالثة تشير إلا أن هناك أمورًا معنوية غير مادية، وأن لدينا القدرة على إدراك هذه الأمور، أي أن لدينا جانبًا غير مادي، أي جانبًا معنويًا.

وبالتالي فالاتجاهات المنكرة للأمور المعنوية، والمنكرة للجانب غير المادي في الوجود وفي تركيبنا؛ تنكر الأخلاق كلها أيضا بالضرورة، فالأخلاق كالصدق والوفاء والتضحية والإيثار والعمل لأجل العدل كلها أمور معنوية غير مادية! وهذه الاتجاهات المنكرة للأمور المعنوية هي الاتجاهات الحسية والمادية التي انتشرت وهيمنت بشدة في عصرنا الحالي، فهذه الاتجاهات في الحقيقة هي اتجاهات لا أخلاقية أيضا.

هذا عن الجانب المعنوي لدينا، وبالتأكيد لدينا جانب آخر هو الجانب الجسدي أو المادي، وهي أجسامنا تلك بتركيباتها التشريحية وأعضائها الحيوية، وهذا الجسد نلمسه ونراه بالحواس وإدراكاتها البديهية.

هل الإنسان مخير ؟

في المقدمة التالية نشير إلى قدرتنا على الاختيار، وهذا أمر بديهي أيضا ندركه بإدراكنا لأنفسنا وأحوالها وإحساسنا بها، فمن الممكن ببساطة أن تختار أن تتابع هذا المقال أو تتوقف، أن تقوم الآن أو تقعد، وهكذا!

وعندما قررت أن تقوم مثلا فهذا كان سببه إما تفكيرك في ضرورة قيامك لعمل شيء هام، أو شعرت برغبة نفسية في الأكل مثلا فقمت، فقراراتنا وسلوكياتنا الاختيارية تلك ناتجة إما عن تفكير عقلي أو ميل نفساني.

وعندما تختار أن تمارس الرياضة مثلا كل يوم، يكون هذا صعبا وشاقا عليك وعلى نفسك في البداية، لكن بمرور الوقت تعتاده ويصبح سهلا بالنسبة لك، وبالمثل إن اخترت أن تستيقظ باكرا، فما نفعله باستمرار يصبح عادة لدينا، ونحن إذ نفعله في البداية يكون صعبا وبعد تردد وتروي، لكن مع التكرار يصبح سهلا وبلا تردد أو تروي، ويصبح عادة لدينا وصفة راسخة في نفوسنا.

والاتجاهات المنكرة لهذه النقاط الأخيرة تنكر الأخلاق أيضا، فالاتجاهات المنكرة للاختيار الإنساني والتي تقول بالجبرية أي أن الإنسان مجبر ومسير في كل أفعاله تهدم الأخلاق أيضا، فأنا أسرق مثلا لأنني مجبر على ذلك ومسير له ولا اختيار لدي، وبالتالي لا تطالبني بألا أسرق أو بأي سلوك اختياري أخلاقي معين، لأن الأمر ليس بيدي. والاخلاق بالكامل تكتسب عن طريق القيام بسلوكيات معينة باختيارك وتجنب أخرى، فإن أنكرت الاختيار أنكرت الأخلاق.

هل الإنسان يستطيع تغيير الأخلاق ؟

أيضا الاتجاهات المنكرة لقدرة الإنسان على تغيير عاداته بالممارسة والمداومة تسقط الأخلاق أيضا، لأن تغيير خلق سيء مثل البخل لا يتم إلا بتكلف الإنسان الكرم، ويكون هذا شاقا وصعبا وبتروي وتردد في البداية لكن مع الاستمرار يصبح سهلا وعادة جديدة لديه، فبهذه الطريقة يكتسب الإنسان أخلاقا ويتخلص من أخرى، فإن أنكرت القدرة على تغيير الأخلاق واكتسابها تصبح أيضا الأخلاق بلا قيمة، بل ستكون محض كلمات لا نستطيع أن نكتسبها أو أن نمارسها، وهذا أيضا قول بالجبرية لكن بتعبير آخر.

والاتجاهات القائلة بالجبرية منها بعض الاتجاهات النصية أو الدينية غير العقلائية، التي تستخدم منهجا غير عقلاني وغير سليم في التعامل مع الدين ونصوصه.

السعي نحو السعادة

كانت هذه هي المقدمات من الخامسة إلى السابعة، أما الثامنة والتاسعة فتقولان إننا في سلوكياتنا الاختيارية نسعى دائما نحو ما نظن أنه الأفضل لنا أو ما فيه كمالنا، وأن هذا الأفضل أو الأكمل فيه لذة أو سعادة ما. فلا يوجد إنسان يختار ويفعل باختياره أمرا لأنه الأسوأ له، أو لأن فيه شقاءه وتعاسته، حتى من يضحي بحياته مثلا فهو يضحي لأجل أمر أكمل وأعظم كرضا الإله، أو تحقيق العدل، أو الجنة، وهذه التضحية تنعكس عليه لذة وسعادة ما، بل حتى المنتحر يهرب من الأسوأ أملا في أن يكون الموت أفضل له!

وهو يريد أن يرتاح من عذاب ما! أي أن يهرب من الشقاء للذة الراحة وسعادتها! فالإنسان في سلوكه الاختياري يطلب دائما الأفضل والأكمل، وهذا الأفضل أو الأكمل يحقق لنفسه لذة أو سعادة.

وهذا واضح وبديهي، فقط يختلف الناس في تشخيصهم لهذا الأفضل والأكمل، ولما فيه سعادتهم ولذتهم، فبعضهم يراها في المال، والبعض في فعل الخير، وهكذا. وإن اتبع الإنسان قواعد التفكير السليم المبنية على البديهيات فسيصل لتشخيص سليم، لأن العقل بالتفكير السليم يصل لحقائق كما سبق.

المقدمة الأخيرة القائلة بتقدم الكمالات المعنوية على الجسدية تم توضيحها تفصيلا في الجزء الأول من المقال، وعند اتباع قواعد التفكير السليم يصبح الاستدلال عليها سهلا.

وبهذا الشكل تثبت القيمة الحقيقية للأخلاق، وتنشأ المباني الأخلاقية. وبشكل عام فالمنهج العقلي هو الوحيد القادر على تشييد بناء الأخلاق، بينما باقي الاتجاهات تهدم أسس الأخلاق عمدا أو جهلا، فتقع في تخبط لا نهائي، وتبتعد عن الكمال الحقيقي والسعادة الحقيقية للإنسان.

اقرأ أيضاً .. كيف يتم تهذيب النفس ؟

اقرأ أيضاً .. العقل الجمعي والتقليد الأعمى

اقرأ أيضاً .. الإكتئاب والعمل

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا